الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن كثير: وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: ويحتمل قوله تعالى: {بِظُلْمٍ} وجهين: أحدهما: ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم غافلون، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ ينبههم على حجج الله عليهم، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]. والوجه الثاني: أن {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} يقول: لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر، فيظلمهم بذلك، والله غير ظلام لعبيده. ثم شرع يرجح الوجه الأول، ولا شك أنه أقوى، والله أعلم. اهـ. .قال أبو السعود: .قال الألوسي: واعترض شيخ الإسلام على جعل {بِظُلْمٍ} حالًا من {رَبَّكَ} أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الإنقياد، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال: والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبًا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسرارء: 15] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده. ولا يخفى أن لما اختاره وجهًا وجيهًا خلا أن قوله فيما بعد إن جعل ذلك إشارة إلى ارسال الرسل عليهم السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوف كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضًا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا، والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة. اهـ. .قال ابن عاشور: والإشارة بقوله: {ذلك} إلى مذكور في الكلام السّابق، وهو أقرب مذكور، كما هو شأن الإشارة إلى غير مَحسوس، فالمشار إليه هو المذكور قبلُ، أو هو إتيان الرّسل الّذي جَرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم، وهو المصدر المأخوذ من قوله: {ألَم يَأتكم رسلٌ منكم} [الأنعام: 130] فإنَّه لمّا حكى ذلك القول للنّاس السّامعين، صار ذلك القول المحكي كالحاضر، فصحّ أن يشار إلى شيء يؤخذ منه. واسم الإشارة إمّا مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره: ذلك الأمر أو الأمر ذلك، كما يدلّ عليه ضمير الشأن المقدّر بعد (أنْ). و{أن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، كما هو استعمالها عند التّخفيف، وذلك لأنّ هذا الخبر له شأن يجدر أن يُعرَف والجملة خبر {أن}، وحذفت لام التّعليل الداخلة على {أن}: لأنّ حذف جارّ {أن} كثير شائع، والتّقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، لأنَّه أي الشأن لم يكن ربّك مُهلك القرى. وجملة: {لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} هو شأن عظيم من شؤون الله تعالى، وهو شأن عَدله ورحمته، ورضاه لعباده الخير والصّلاح، وكراهيته سوء أعمالهم، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدّم إليهم بالإنذار والتنبيه. وفي الكلام إيجاز إذ عُلم منه: أنّ الله يهلك القرى المسترسِلَ أهلُها على الشّرك إذا أعرضوا عن دعوة الرّسل، وأنّه لا يهلكهم إلاّ بعد أن يرسل إليهم رسلًا منذرين، وأنّه أراد حمل تَبعَة هلاكهم عليهم، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا: لولا رحمنا ربّنا فانبأنا وأعذر إلينا، كما قال تعالى: {ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله} أي قبل محمّد صلى الله عليه وسلم أو قبل القرآن {لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} [طه: 134] فاقتصر من هذا المعنى على معنى أنّ علّة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة، فدلّ على المعنى المحذوف. والإهلاك: إعدام ذات الموجود وإماتةُ الحيّ. قال تعالى: {ليَهْلِك من هلك عن بيّنة ويَحْيَى من حَيِيَ عن بيّنة} [الأنفال: 42] فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها، وإحياؤها إعادةُ عُمرانها بالسكّان والبناء، قال تعالى: {أنَّى يحيي هذه} أي القريةَ {الله بعد موتها} [البقرة: 259]. وإهلاك النّاس: إبادتهم، وإحياؤهم إبقاؤهم، فمعنى إهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكّانها. لأنّ الإهلاك تعلّق بذات القرى، فلا حاجة إلى التمجّز في إطلاق القرى على أهل القرى كما في: و{اسأل القرية} [يوسف: 82] لصحّة الحقيقة هنا، ولأنَّه يمنع منه قوله: {وأهلُها غافلون}. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرًا} [الإسراء: 16] فجعل إهلاكها تدميرها، وإلى قوله: {ولقد أتَوْا على القرية التي أُمطرت مَطَر السَّوْء أفلم يكونوا يرونها} [الفرقان: 40]. والباء في: {بِظلم} للسّببيّة، والظلم: الشّرك، أي مهلكهم بسبب شرك يَقع فيها فيهلكها ويهلك أهلها الّذين أوقعوه، ولذلك لم يقل: بظلم أهلها، لأنَّه أريد أن وجود الظلم فيها سببُ هلاكها، وهلاكُ أهلها بالأحرى لأنَّهم المقصود بالهلاك. وجملة: {وأهلها غافلون} حال من {القرى}. وصرح هنا بـ {أهلها} تنبيها على أنّ هلاك القُرى من جراء أفعال سكّانها، {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} [النمل: 52]. اهـ. .قال الشعراوي: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم، وهو إرسال الرسل مبلغين عن الله؛ حتى لا يكون لأحد حُجة بعد الرسل، وقد أقروا بأن الله أرسل إليهم رسلًا، وشهدوا على أنفسهم، وماداموا قد أقرّوا على أنفسهم بأن الله أرسل لهم رسلًا وشهدوا على أنفسهم بذلك، إذن فهذا إقرار جديد بأن الله لم يكن مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُرم، وقبل أن يجرّم ينزل النص بواسطة الرسل. أي أن الله لا يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إلا بعد ذلك البلاغ. {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}، والغفلة ضد اليقظة، فاليقظة، هي تنبّه الذهن الدائم، والغفلة أن تغيب بعض الحقائق عن الذهن، ومعنى أن ربنا لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين؛ فلو أنهم كانوا يقظين ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل؛ لأن الله عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى ذريته، وكان المفروض كما يلقن الآباء الأبناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم. فكما أن الآباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم، ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم، كان من الواجب على الآباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في الناس كما عاشت وسائل حياتهم. ولماذا- إذن- عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء؟! لأن زاوية الدين هي التي يغفل الناس عنها، بسبب أنها تقيد حركتهم في افعل ولا تفعل، ولكنهم يريدون الترف في وسائل حياتهم. لماذا إذن أيها الإِنسان تحرص على الترقي في ترف الحياة ولا تحرص على الترقي في القيم؟. لقد كنت- على سبيل المثال- تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوبًا لتشرب منه، ونقيت الماء من الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج. أنت ترفه حياتك المادية والمعيشية فأين إذن الاهتمام بقيم الدين؟!! ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم، وعلى الرغم من ذلك رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة، وكرّر التنبيه بواسطة الرسل. وكلما انطمست معالم القيم التي يحملها المنهج فهو- جل وعلا- يرسل رسولًا رحمة منه وفضلًا وعدالة، ولم يكن يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، والغفلة ضد اليقظة. إذن لو كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل؛ لأن الآباء كانوا سينقلون لأبنائهم القيم كما ينقلون إليهم وسائل حياتهم، وهذا الأمر مستمر معنا حتى الآن؛ إن الأب- مثلًا- إن غاب ابنه عن المدرسة يومًا يلوم الابن، وإن أهمل في دروسه أو رسب فهو يعاقب الابن، وهذه هي الغيرة على المستقبل المادي للابن، ولا غيرة على أدائه لفروض الدين، لماذا؟. إن الناس لو عنوا بمسائل قيمهم كما يعنون دائمًا بمسائل حياتهم لاستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمرًا رتيبًا. وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة، كما أن السهو ضده التذكر، والغروب ضده الشروق، والغياب ضده الحضور. اهـ.
|